فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الحجر: الآيات 14- 15]

{وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}.
قرئ {يَعْرُجُونَ} بالضم والكسر، و{سُكِّرَتْ} حيرت أو حبست من الإبصار، من السكر أو السكر، وقرئ: {سكرت} بالتخفيف أى حبست كما يحبس النهر من الجري، وقرئ: {سكرت} من السكر، أى حارت كما يحار السكران، والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد: أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك، وقيل: الضمير للملائكة، أى: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانًا لقالوا ذلك، وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون، وقال: إنما، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيرًا للأبصار.

.[سورة الحجر: الآيات 16- 20]

{وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)}.
{مَنِ اسْتَرَقَ} في محل النصب على الاستثناء، وعن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها {شِهابٌ مُبِينٌ} ظاهر للمبصرين {مَوْزُونٍ} وزن بميزان الحكمة، وقدّر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة، وقيل: ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها مَعايِشَ بياء صريحة، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما، فإن تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين بين.
وقد قرئ: {معايش}، بالهمزة على التشبيه {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} عطف على {معايش}، أو على محل {لكم}، كأنه قيل: وجعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم من لستم له برازقين، أو: وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين، وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإنّ اللّه هو الرزاق، يرزقهم وإياهم، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة، مما اللّه رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون، ولا يجوز أن يكون مجرورا عطفًا على الضمير المجرور في لَكُمْ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور.

.[سورة الحجر: آية 21]

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}.
ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور.

.[سورة الحجر: آية 22]

{وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22)}.
{لَواقِحَ} فيه قولان، أحدهما: أنّ الريح لا قح إذا جاءت بخير، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل التي لا تأتى بخير: ريح عقيم، والثاني: أن اللواقح بمعنى الملاقح، كما قال:
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ

يريد المطاوح جمع مطيحة، وقرئ: {وأرسلنا الريح}، على تأويل الجنس {فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} فجعلناه لكم سقيا {وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ} نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ} كأنه قال: نحن الخازنون للماء، على معنى: نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها، وما أنتم عليه بقادرين: دلالة على عظيم قدرته وإظهارًا لعجزهم.

.[سورة الحجر: الآيات 23- 25]

{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}.
{وَنَحْنُ الْوارِثُونَ} أى الباقون بعد هلاك الخلق كله، وقيل للباقي وارث استعارة من وارث الميت، لأنه يبقى بعد فنائه، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم في دعائه «واجعله الوارث منا».
وَلَقَدْ عَلِمْنَا من استقدم ولادة وموتًا ** ومن تأخر من الأوّلين والآخرين.

أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر، وقيل: المستقدمين في صفوف الجماعة والمستأخرين، وروى أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت {هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أى هو وحده القادر على حشرهم، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} باهر الحكمة واسع العلم، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب، وقد أحاط علمًا بكل شيء.

.[سورة الحجر: الآيات 26- 27]

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)}.
الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل، وإن توهمت فيه ترجيعًا فهو صلصلة، وقيل: هو تضعيف (صل) إذا أنتن، والحمأ: الطين الأسود المتغير، والمسنون: المصوّر، من سنة الوجه، وقيل: المصبوب المفرغ، أى: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها، وقيل: المنتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين، ولا يكون إلا منتنا {مِنْ حَمَإٍ} صفة لصلصال، أى: خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق {مَسْنُونٍ} بمعنى مصور، أن يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر {وَالْجَانَّ} للجن كآدم للناس، وقيل: هو إبليس، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {والجأن}، بالهمز {مِنْ نارِ السَّمُومِ} من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام. قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق اللّه منها الجانّ.

.[سورة الحجر: الآيات 28- 44]

{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}.
{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ} واذكر وقت قوله: {سَوَّيْتُهُ} عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها، ومعنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وأحييته، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه، واستثنى إبليس من الملائكة، لأنه كان بينهم مأمورًا معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب كقولك: رأيتهم إلا هندًا، وأَبى استئناف على تقدير قول قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه، وقيل: معناه ولكن إبليس أبى. حرف الجر مع أن محذوف، وتقديره مالك في {أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} بمعنى أىّ غرض لك في إبائك السجود، وأى داع لك إليه. اللام في {لِأَسْجُدَ} لتأكيد النفي.
ومعناه: لا يصحّ منى وينافي حالى، ويستحيل أن أسجد لبشر {رَجِيمٌ} شيطان من الذين يرجمون بالشهب، أو مطرود من رحمة اللّه، لأن من يطرد يرجم بالحجارة، ومعناه: ملعون، لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها، والضمير في مِنْها راجع إلى الجنة أو السماء، أو إلى جملة الملائكة، وضرب يوم الدين حدًا للعنة، إما لأنه غاية يضربها الناس في كلامهم، كقوله: {ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} في التأبيد، وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين، من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه، و{يَوْمِ الدِّينِ} و{يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و{يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} في معنى واحد، ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة البلاغة، وقيل: إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت، لأنه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم، وما مصدرية وجواب القسم {لَأُزَيِّنَنَّ} المعنى:
أقسم بإغوائك إياى لأزينن لهم، ومعنى إغوائه إياه: تسبيبه لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه، وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر اللّه، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، واللّه تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به، ونحو قوله: {بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ}: قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} في أنه إقسام، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله، وقد فرق الفقهاء بينهما، ويجوز أن لا يكون قسما، ويقدر قسم محذوف، ويكون المعنى: بسبب تسبيبك لإغوائى أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بى من التسبيب لإغوائهم، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم فِي الْأَرْضِ في الدنيا التي هي دار الغرور، كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ} أو أراد أنى أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا علىّ التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض، ولأوقعن تزييني فيها، أى: لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها، ونحوه:
يَجْرَحْ في عَرَاقِيبِهَا نَصْلِى

استثنى المخلصين، لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. أى هذا طريق حق عَلَيَّ أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته: وقرئ {عليّ}، وهو من علو الشرف والفضل {لَمَوْعِدُهُمْ} الضمير للغاوين، وقيل:
أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين، وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين، وقرئ: {جزء}، بالتخفيف والتثقيل، وقرأ الزهري: {جزّ}، بالتشديد، كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاى، كقولك: خبّ في خبء، ثم وقف عليه بالتشديد، كقولهم: الرجل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

.[سورة الحجر: الآيات 45- 48]

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)}.
المتقى على الإطلاق: من يتقى ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه، وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما:
اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها ادْخُلُوها على إرادة القول.
وقرأ الحسن: {أدخلوها بِسَلامٍ سالمين} أو مسلما عليكم: تسلم عليكم الملائكة. الغل: الحقد الكامن في القلب، من انغل في جوفه وتغلغل، أى: إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر نزع اللّه ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم، وعن علىّ رضى اللّه عنه: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، وعن الحرث الأعور: كنت جالسًا عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له علىّ:
مرحبا بك يا ابن أخى. أما واللّه إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال اللّه تعالى: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} فقال له قائل: كلا، اللّه أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: فلمن هذه الآية لا أمّ لك؟ وقيل: معناه طهر اللّه قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غل، وألقى فيها التوادّ والتحاب، و{إِخْوانًا} نصب على الحال، و{عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} كذلك، وعن مجاهد. تدور بهم الأسرة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. اهـ.

.قال ابن جزي:

{الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}
يحتمل أن يريد بالكتاب الكتب المتقدمة، وعطف القرآن عليها، والظاهر أنه القرآن وعطفه عطف الصفات {رُّبَمَا} قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان، وما حرف كافة لرب، ومعنى رب التقليل، وقد تكون للتكثير، وقيل: إن هذه منه، وقيل: إنما عبر عن التكثير بأداة التقليل كقوله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} [البقرة: 144]، و{قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64]، وقيل إن معنى التقليل في هذه أنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه مرارًا كثيرة، ولا تدخل إلا على الماضي {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} قيل: إن ذلك عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج عصاة المسلمين من النار، وهذا هو الأرجح لحديث روي في ذلك {ذَرْهُمْ} وما بعده تهديد {كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أي وقت محدود.
{وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} الضمير في قالوا لكفار قريش، وقولهم: نزل عليه الذكر يعنون على وجه الاستخفاف، أي بزعمك ودعواك {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} لو ما عرض وتحضيض، والمعنى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالملائكة معه {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} رد عليهم فيما اقترحوا، والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح، التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح واختيار كافر، وقيل: الحق هنا العذاب {وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} إذًا حرف جواب وجزاء، والمعنى لو أنزل الملائكة لم يؤخر عذاب هؤلاء الكفار، الذين اقترحوا نزولهم، لأن من عادة الله أن من اقترح آية فرآها ولم يؤمن أنه يعجل له العذاب، وقد علم الله، أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم، ويؤمن أعقابهم فلم يفعل بهم ذلك.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} الذكر هنا هو القرآن وفي قوله: إنا نحن نزلنا الذكر ردًا لإنكارهم واستخفافهم في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك أكده بنحن واحتج عليه بحفظه، ومعنى حفظه: حراسته عن التبديل والتغيير، كما جرى في غيره من الكتب، فتولى الله حفظ القرآن، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان منه، ولا تبديله بخلاف غيره من الكتب، فإن حفظها موكول إلى أهلها لقوله: {بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله} [المائدة: 44]. {فِى شِيَعِ الأولين} الشيع: جمع شيعة وهي الطائفة التي تتشيع لمذهب أو رجل {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} معنى نسلكه ندخله، والضمير في نسلكه يحتمل أن يكون للاستهزاء، الذي دل عليه قوله: به يستهزؤن، أو يكون للقرآن أي نسلكه في قلوبهم فيستهزئوا به، ويكون قوله: كذلك تشبيهًا للاستهزاء المتقدم، ولا يؤمنون به تفسيرًا لوجه إدخاله في قلوبهم، والضمير في به للقرآن.
{وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} أي تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء حتى هلكوا بذلك، ففي الكلام تهديد لقريش {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبصارنا} الضمائر لكفار قريش المعاندين المحتوم عليهم بالكفر وقيل: الضمير في ظلوا وفي يعرجون للملائكة وفي قالوا للكفار، ومعنى: يعرجون يصعدون، والمعنى أن هؤلاء الكفار لو رأوا أعظم آية لقالوا: إنها تخييل أو سحر، وقرئ {سكِّرت} بالتشديد والتخفيف ويحتمل أن يكون مشتقًا من السكر، فيكون معناه: أجبرت أبصارنا فرأينا الأمر على غير حقيقته، أو من السِّكْر وهو السد فيكون معناه منعت أبصارنا من النظر.
{بُرُوجًا} يعني المنازل الاثني عشر {إِلاَّ مَنِ استرق السمع} استثناء من حفظ السموات فهو في موضع نصب {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} أي: مقدر بقدر، فالوزن على هذا استعارة وقيل: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والأطعمة، والأول أعم وأحسن.
{وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يعني: البهائم والحيوانات ومن معطوف على معايش وقيل: على الضمير في لكم، وهذا ضعيف في النحو لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهو قوي في المعنى أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} قيل: يعني المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت، وقيل: ذلك تمثيل، والمعنى وإن من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه {بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي بمقدار محدود {وَأَرْسَلْنَا الرياح لواقح} يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت فهي لاقحة، وألقحت الريح الشجر فهي ملحقة ولواقح جمع لاقحة، لأنها تحمل الماء أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين} الآية: يعني الأولين والآخرين من الناس، وذكر ذلك على وجه الاستدلال على الحشر الذي ذكر بعد ذلك في قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} لأنه أذا أحاط بهم علمًا لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم، وقيل: يعني من استقدم ولادة وموتًا ومن تأخر، وقيل: من تقدم إلى الإسلام ومن تأخر عنه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صلصال} الإنسان هنا هو: آدم عليه السلام، والصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوت وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} الحمأ: الطين الأسود، والمسنون المتغير المنتن، وقيل: إنه من أَسِنَ إذا تغير، والتصريف يردّ هذا القول، وموضع من حمأ صفة لصلصال: أي صلصال كائن من حمأ.
{والجآن خلقناه} يراد به جنس الشياطين، وقيل إبليس الأول، وهذا أرجح لقوله: من قبلُ وتناسلت الجن من إبليس وهو للجن كآدم للناس {السموم} شدّة الحر.
{خالق بَشَرًا} يعني آدم عليه السلام {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} يعني الروح التي في الجسد، وأضاف الله تعالى الروح إلى نفسه إضافة مُلْك إلى مالك أي: من الروح الذي هو لي وخلق من خلق، وتقدّم الكلام على سجود الملائكة في البقرة.
{فاخرج مِنْهَا} أي من الجنة أو من السماء {قَالَ رَبِّ} يقتضي إقراره بالربوبية وأن كفره كان بوجه غير الجحود، وهو اعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} اليوم الذي طلب إبليس أن ينظر إليه هو يوم القيامة، وقيل: الوقت المعلوم الذي أُنْظِر إليه هو يوم النفخ في الصور النفخة الأولى؛ حين يموت من في السموات ومن في الأرض، وكان سؤال إبليس الانتظار إلى يوم القيامة جهلًا منه ومغالطة؛ إذ سأل ما لا سبيل إليه. لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبدًا، لأنه لا يموت أحد بعد البعث، فلما سأل ما لا سبيل إليه: أعرض الله عنه، وأعطاه الانتظار إلى النفخة الأولى. الباء للسببية أي لأغوينهم بسبب إغوائك لي، وقيل: للقسم كأنه قال: بقدرتك على إغوائي لأغوينهم، والضمير لذرية آدم {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} القائل لهذا هو الله تعالى، والإشارة بهذا إلى نجاة المخلصين من إبليس، وأنه لا يقدر عليهم أو إلى تقسيم الناس إلى غويّ ومخلَص {إِلاَّ عِبَادَكَ} يحتم أن يريد بالعباد جميع الناس، فيكون قوله: إلا من اتبعك استثناء متصل أي يريد بالعباد المخلصين فيكون الاستثناء منقطعًا {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} الضمير للغاوين {لَهَا سَبْعَةُ أبواب} روي أنها سبعة أطباق في كل طبقة باب، فأعلاها للمذنبين من المسلمين والثاني: لليهود، والثالث: للنصارى، والرابع: للصابئين والخامس: للمجوس، والسادس: للمشركين، والسابع: للمنافقين ادخلوها تقديره يقال لهم: ادخلوها والسلام يحتمل أن يكون التحية أو السلامة {إخوانا} يعني أخوّة المودّة والإيمان {متقابلين} أي يقابل بعضهم بعضًا على الأسرة {نَصَبٌ} أي تعب. اهـ.